تجديد النظام السياسي الأردني


يعيش الأردن حالة من فقدان التوازن والتركيز داخل بنية النظام السياسي، ويعود ذلك إلى عدة عوامل ساهمت بشكل مباشر وغير مباشر في إحداث هذا الخلل، ابتداءً من فترة ما يسمى «الربيع العربي»، الذي تسبب بابتعاد كتل اليسار السياسي في النظام الديمقراطي، وفي مقدمتهم جماعة الإخوان المسلمين رفقة أحزاب اليسار القومية الذين كانوا يشكلون جناح اليسار المعارض بممارسة سياسية فاعلة، وبديمقراطية منتجة للحياة السياسية الأردنيّة.
فوضى السلطات
في ظل غياب مساحة اليسار السياسي، أُجبر اليمين السياسي «البيروقراطي» بمشاركة مؤسسات المجتمع المدني على شغل هذا المساحة، وعادة ما تكون فوضوية وهدّامة، ويعود ذلك لأسباب عديدة، في مقدمها غلبة الصالح الخاص على الصالح العام، واليسارية الناقدة غير المنتظمة، وصعود كبير لسياسة الكراسي الطبقية البعيدة عن حياة المجتمع التقليدي البسيط ومتطلباته التنموية، بالإضافة إلى غياب العمل الجماعي المستند إلى رؤية إصلاحية مستقبلية، بالتالي هنالك نوع من الفوضى الداخلية، وتشتت التوجهات والجهود السياسية، الأمر الذي يؤثر بشكل كبير على عملية التنمية والتقدّم للدولة.
يتشكَّل أي نموذج ديمقراطي للحكم من سلطات أساسية ورئيسية، هي التشريعية، التنفيذية، القضائية، الإعلاميّة. لكن الحالة مختلفة في الأردن، بالإضافة للسلطات المذكورة، يزدحم النظام السياسي بالسلطات الأمنية، والسلطة الوفية (يمثلها الديوان الملكي)، وحديثًا دخلت سلطة المجتمع المدني لتسهم في المراقبة والمساءلة وتقديم اقتراحات لتعديل التشريعات، الأمر الذي أدى بالسلطة التنفيذية إيلاء مؤسسات المجتمع المدني أهمية كبيرة في عملها، إلى حد الاستعانة بقياداتها لتولي المناصب السياسية العامة.
بالرغم من تبني الدستور مبدأ الفصل المرن بين السلطات الثلاث الأساسية (التنفيذية، التشريعية، القضائية)، إلا أن تغول بقية السلطات الأخرى يعمل على فقدان الوظائف الأساسية للسلطات، وتداخل مساحات الممارسة يعمل على تعطّل العمل والتقييم والمساءلة.
تتمثل الإشكالية في فوضى السلطات إلى وجود تداخل في العمل والصلاحيات، وغياب مبدأ واضح لفصل هذه السلطات، على سبيل المثال؛ ما زالت السلطة التنفيذية تقوم بأعمال السلطة التشريعية من حيث اقتراح القوانين وتعديلها، وهذا بالأساس هو عمل السلطة التشريعية، وتعود هذه الممارسة بسبب ضعف السلطة التشريعية التي تتكون من مجلسين، الأكبر عددًا هو مجلس نواب لم تفرزه بدرجة كبيرة أحزاب سياسية، بقدر ما أفرزته العشائرية والمكانة الاقتصادية، وبدرجة ثانية مجلس أعيان يضم في غالبيته متقاعدو السلطة التنفيذية ومن أصحاب النفوذ الاقتصادي. كذلك تدخل بقية السلطات في عمل السلطة التنفيذية، الأمر الذي يجعل من فقدان التركيز والثقة بالسلطة التنفيذية أمرا ملاصقا لها في عملها، وهو أمر غير منتج للعملية التنموية وتؤثر على مسيرة التقدُّم للدولة.
تزيد هذه الإشكالية من صعود الممارسة البيروقراطية في مؤسسات الدولة التنفيذية، الأمر الذي يؤثر على إدارة الجهاز التنفيذي نفسه، ويعمل هذا التداخل على تشتت الجهود من جهة، وسوء العلاقة ما بين المواطن وأطراف العقد الاجتماعي جميعها. بالتالي، تكون عملية الانتحار السياسي لأي برامج ناجحة، أو تيارات سياسية إصلاحية برامجية، هو من خلال توليها منصب إدارة السلطة التنفيذية.
همّ الأمة
تتواجد مفردة الـ «أمة» في العديد من مواد الدستور الأردني، ويسمّى مجلس نواب الشعب «مجلس الأمة»، ويقسم المسؤولون عند تسلّمهم مناصبهم الجديدة على أن يخدموا الأمة، حتى أنَّ الجيش الأردنيّ، يسمَّى الجيش العربيّ، والنشيد الوطني (موطني الجلال والجمال… الشباب لن يكلَّ) تنشده العديد من الدول العربية، يقول الملك الحسين في مولد ابنه الملك الحالي عبدالله الثاني؛ « مثلما أنني نذرت نفسي، منذ البداية، لعزة هذه الأسرة ومجد تلك الأمة كذلك فإني قد نذرت عبد الله لأسرته الكبيرة، ووهبت حياته لأمته المجيدة»، ولايزال «خطاب الأمة» إلى اليوم هو السائد في الخطابات الملكية، وفي الفكر السياسي للملك عبدالله، حيث يذكر الموقع الإلكتروني للملك أنه يؤمن سياسيًا أن الأردن هو وارث رسالة الثورة العربية الكبرى، ولذلك يجب أن يظل الأكثر انتماء لأمتيه العربية والإسلامية، والأكثر حرصاً على القيام بواجبه تجاه قضايا الأمتين، وتطلعات أبنائها المستقبلية»
كذلك تبنّي مفردة «النهضة» التي عادة لا تكون لخطة إصلاحية لدولة ما بقدر ما تكون توجهًا قوميًا، أو دينيًا، أو ربما قاريًا، بالتالي المصطلح لا يكون ضيّقًا داخل حدود الدولة، وما أعنيه هنا، أنّ مفردة الـ «النهضة» (Renaissances) بمعناها الأوروبي الفرنسي، أو في العربي، هو عبارة عن ردة فعل لجماعة، أمة، حضارة، سقطت وتريد النهوض، وهذا غير مقبول في السياق الأردني، أولاً لأن دولة الأردن لم تسقط لكي تنهض، ثانيًا لأنها مازالت دولة تصنَّف بالحديثة- بالمعنى السياسي للدولة- بينما سيكون مقبولًا هذا التبني إذا كان المقصود هو ذاته محتوى خطابات الدولة ذي الطابع القومي.
وهل مطلوب من الأردن أن تلتفت إلى الخارج أكثر من الداخل؟ خصوصًا في ظل وضع اقتصادي، سياسي مضطرب! وهل علَّمتنا التجربة أن الحليف السياسي، يبقى حليفًا على الدوام؟ يبدو أننا بحاجة إلى إعادة ترتيب أوراقنا وأولوياتنا، والإلتفات إلى الداخل، والاهتمام والانتماء أولاً إلى المستقبل الذي يحتاجه الأردن.
تجديد العقد الاجتماعي
اكتسب الشباب والمجتمع المدني في الأردن تجارب غنية ومتنوعة من البرامج التي ينفذها، خصوصًا تلك المدعومة ببرامج وتجارب دولية تتعلق بالحوكمة والمواطنة الفاعلة، إلا أنَّ توظيف هذه الجهود لصالح الدولة، لا يزال يحارب من قبل المؤسسات التقليدية، بسبب التنافسية الكبيرة وما يحمله الجيل الجديد من أدوات سياسية حديثة، ستعمل على تدافع كبير في الأجيال السياسية، كذلك تنوع التجربة المدنية لمؤسسات المجتمع المدني وقوتها وزخمها، الأمر الذي تفتقره الأحزاب السياسية في الأردن، التي بدأت مؤخرًا بالبحث عن تحالفات وإندماجات مع أحزاب بحثًا عن مشتركات سياسية، علها تشكّل مناطق قوى في أماكن صناعة القرار.
تحتاج الأحزاب السياسية في الأردن إلى الاعتراف بها كمؤسسات مجتمع مدني، يحق لها التعاون مع المؤسسات الدولية التي تتعامل معها الحكومة، من أجل تنفيذ برامجها الإصلاحية والتنموية، كبقية المؤسسات غير الهادفة للربح والتي تخضع لقوانين الرقابة والمساءلة المعمول بها، حيث أنّ تمويل الأحزاب كمؤسسات مجتمع المدني غير ربحية، تقوم بتنفيذ برامج تنموية اقتصادية وثقافية وسياسية مختلفة، سيعمل على تدفق المعرفة والتجارب التنموية المختلفة، كتلك المكتسبة من قبل مؤسسات المجتمع المدني، بالتالي هي خطوة في الطريق الصحيح من أجل تفعيل الحياة الحزبية المستقبلية، بنهج أكثر وعيًا وقوة، وبفعالية المشاركة السياسية.
يوازي هذا العمل، التركيز على تحديد السلطات السياسية في الأردن، والفصل فيما بينها، وتحديد مناطق عمل كل منها، ومناطق التداخل فيما بينها، الأمر الذي يساعد السلطة التنفيذية على القيام بواجباتها بطريقة واضحة ومتزنة، تتيح مراقبتها ومسائلتها، وتساعدها على إعادة العلاقة مع أطراف العقد الاجتماعي، خصوصًا المواطن، وعلى مبدأ الديمقراطية التشاركية بمرجعية الصالح العام.

 

تعليقات

المشاركات الشائعة